أحمد الفقيه العجيلي
بعد عامين على اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، ما زال الحدث يرسم ملامح مرحلة جديدة في التاريخ الفلسطيني والعالمي. لم تكن تلك العملية مجرد مُواجهة عسكرية بين فصيل مقاوم وجيش احتلال، بل منعطفًا سياسيًا وتاريخيًا أعاد تعريف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفرض معادلات جديدة على الأرض وفي الوعي العالمي.
لقد كشفت معركة الطوفان أن شعبًا محاصرًا منذ أكثر من عشرين عامًا، يعيش في قطاع لا يتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، قادر على أن يفرض نفسه لاعبًا رئيسيًا رغم آلة الحرب الهائلة التي استهدفته بلا رحمة. فالمقاومة هنا لم تكن فعلًا عابرًا أو اندفاعًا لحظيًا؛ بل ممارسة لحقٍّ أصيل أقرّته الأمم المتحدة في قراراتها التي تؤكد شرعية كفاح الشعوب تحت الاحتلال بجميع الوسائل، بما فيها الكفاح المسلح. إنه الامتداد الطبيعي لتجارب التحرر عبر التاريخ، من الجزائر إلى فيتنام وجنوب أفريقيا، واليوم في فلسطين.
انطلقت شرارة العملية في فجر السابع من أكتوبر 2023، عندما اجتازت مجموعات من المقاومة الفلسطينية أسوار الحصار المفروض على غزة، واقتحمت مواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية محاذية للقطاع. المشهد الذي دوّى في العالم لم يكن فقط مفاجأة عسكرية، بل زلزالًا سياسيًا أطاح بصورة إسرائيل كقوة لا تُقهر، وأعاد للقضية الفلسطينية حضورها في صدارة الوعي العالمي بعد سنوات من محاولات التهميش والتطبيع.
وجاء الرد الإسرائيلي بقدر الصدمة التي تلقاها: حرب شاملة استخدمت فيها القوة المفرطة ضد المدنيين، وأسقطت آلاف الشهداء والجرحى، وهدمت المستشفيات والمدارس ومخيمات الإيواء. كانت الحرب في جوهرها إبادة ممنهجة أكثر منها مواجهة عسكرية، وهو ما أكدت عليه تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية.
أمام هذه الحقائق، خلصت لجنة تحقيق أممية إلى أن تدمير النظام الصحي في غزة سياسة متعمدة ترقى إلى جريمة إبادة، فيما أكدت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" أن الاحتلال استخدم التجويع كسلاح جماعي، عبر قطع المياه والكهرباء والوقود عن السكان. مئات الهجمات على المرافق الطبية وثّقتها منظمة الصحة العالمية، لتؤكد أن ما جرى لم يكن "أخطاء عرضية"، بل استراتيجية تدمير شامل تستهدف مقومات الحياة ذاتها.
ورغم هذا الدمار الهائل، استطاعت المقاومة أن تصمد وتتكيف، وأن تدير المعركة على أكثر من جبهة: عسكرية وسياسية وإعلامية، ونفذت عمليات نوعية ضد قواعد ومواقع عسكرية، وحافظت على أمنها الداخلي في أصعب الظروف، وأدارت حرب روايات أعادت توجيه أنظار العالم نحو جوهر الصراع. في خضم الانهيار الإنساني، واصلت شبكات الإغاثة والخدمات المحلية عملها بأدنى الإمكانات، في مشهد جسّد معنى الصمود الجمعي لغزة.
في المقابل، انكشف عجز النظام الدولي على نحوٍ غير مسبوق. فقد عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار ملزم بوقف إطلاق النار نتيجة استخدام متكرر للفيتو الأمريكي، الذي منح الاحتلال غطاءً لمواصلة حرب الإبادة. هذا الشلل لم يترك سكان غزة وحدهم فحسب، بل وجّه ضربة قاسية إلى مصداقية الأمم المتحدة في أداء دورها الأساسي.
ولم تقتصر مشاركة الولايات المتحدة على الدعم السياسي، بل تجاوزته إلى التورط المباشر في الحرب؛ فهي من زوّدت إسرائيل بالسلاح والذخائر والقنابل الفتاكة، ومنحتها الغطاء الكامل في مجلس الأمن، ومنعت أي مساءلة دولية.
بذلك تحوّلت واشنطن من "وسيط" إلى شريك في الجريمة، ما أثار جدلًا واسعًا داخل الكونغرس الأمريكي نفسه، وأطلق موجات غضب شعبي انعكست في مظاهرات مليونية مؤيدة لفلسطين، هي الأكبر منذ عقود.
أما الموقف العربي الرسمي، فقد جاء باهتًا ومتردّدًا، بينما خرجت الشعوب العربية بمئات الآلاف في العواصم والساحات، رافعة علم فلسطين، ومؤكدة أن الوجدان العربي ما زال حيًا رغم محاولات التطبيع والترويض.
ومع مرور الوقت، بدأت تتضح تحولات جديدة في الخطاب الإعلامي العربي تجاه غزة. وتابعت تغريدات وتحليلات مفكرين مثل الدكتور لقاء مكي، الذين أشاروا إلى أنَّ المقاومة تبدأ بفكرة وتنتهي بها، وأن السلاح مجرد تفصيل لا ينبغي اعتباره معيار البقاء أو الفناء. هذه النبرة الجديدة انعكست أيضًا بعد صدور ردّ حماس على مقترح الرئيس الأمريكي ترامب، حيث جاء البيان المتزن، متوازنًا، محافظًا على الحقوق الوطنية، وموافقًا مبدئيًا على تبادل الأسرى ووقف الحرب، ضمن إطار تفاوضي عبر الوسطاء.
اللافت أن رد ترامب وصف موقف حماس بالإيجابي، ما أرسل إشارات ضمنية ببدء مرحلة جديدة في إدارة الملف، وأظهر كيف يمكن للخطاب السياسي والإعلامي أن يتحول تدريجيًا من الانفعال والتحريض إلى الواقعية والتفاوض، دون أن يُفقد حق المقاومة في التمسك بالحقوق المشروعة.
ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر هو تراجع التفاعل الجماهيري أحيانًا، إذ يبدو أن الجماهير أُرهقت من طول المأساة أو أُشبعت بالتناقضات، ما يجعل الحفاظ على الوعي الجمعي مهمة أساسية في المرحلة المقبلة، حتى لا يتحول الصراع إلى ملف تفاوض بارد بعيد عن روح المقاومة.
بعد عامين على اندلاع الطوفان، يبدو واضحًا أن الاحتلال فشل في تحقيق أهدافه العسكرية، فيما المقاومة- رغم الدمار والحصار- خرجت أكثر حضورًا وصلابة وتأثيرًا. لقد تركت الحرب درسًا عميقًا: الشعوب لا تُمحى بالقوة، والحق في الحرية والمقاومة لا يُقهر مهما بلغ حجم الدمار.
إنَّ طوفان الأقصى لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل صرخة في وجه العالم تقول إن الاحتلال لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وإن غزة- رغم الركام والإبادة- ما زالت تنبض بالحياة والمقاومة. وبعد عامين من الدم والدمار، يمكن القول إن إسرائيل خسرت صورتها، والعالم استيقظ، وفلسطين استعادت مكانتها في الوعي الإنساني كقضية حرية وعدالة لا تموت، بينما الخطاب العربي والإعلامي يتهيأ لمرحلة جديدة من التوازن والتأمل السياسي.